لماذا الخداع النفسي؟

لأن الإنسان لم يُعد يُخدَع بالقوة، بل يُعاد تشكيله بهدوء بالغ، تحت غطاء من العناية، وبواسطة خطاب يبدو رحيمًا، لكنه لا يلبث أن يتحوّل إلى قيد داخلي تتبناه وتدافع عنه، ظنًّا منك أنك تتحرّر، بينما أنت تتهذّب.

لأن الترويض لم يعُد يُمارَس من الخارج، بل يُزرَع داخلك، ويُعاد إنتاجه بصوتك، وقناعاتك، وسعيك الحثيث لأن تكون “أفضل”، ولو كلّفك ذلك أن تتخلى عن غضبك، عن رفضك، عن جزء أصيل من كيانك لا يقبل التكيّف.

ولأن التجارب التي أُجريت على الفئران أصبحت المرجع الذي يُفصّل وعيك على مقاسه، ثم يُقال لك إن هذا هو النموذج المثالي، وكأن خصوصيتك الإنسانية مجرّد انحراف إحصائي يجب تقويمه.

الخداع النفسي لا يدخل حياتك كعدو، بل كمنقذ. لا يقهر إرادتك، بل يُعيد توجيهها. لا يُملي عليك ما يجب أن تكون، بل يجعلك تتبناه طوعًا، وتدافع عنه وكأنه خيارك، بينما هو هندسة محكمة تم إخضاعك لها دون إعلان.

تُلقَّن مفاهيم التوازن والشفاء والسلام، فتتماهى معها بوصفها حقائق، دون أن تدرك أن ما تفقده في المقابل هو قدرتك على الاحتجاج، على الثورة، على رفض أن تتحوّل إلى مشروع قابل للتقييم، قابل للإصلاح، قابل للتداول ضمن معايير الكفاءة النفسية.

هذا الكتاب لا يستعرض أخطاء النظريات، ولا يقترح بدائل سلوكية، بل يهدم البنية التي أنتجت هذا الشكل من الاستعباد الناعم، حيث يُعاد تصنيف الإنسان وفق مدى تكيّفه، لا وفق عمقه أو حريته أو حدّته.

إنه لا ينتقد الخطاب، بل يفضحه من الداخل، حيث تم تسويق الضعف على أنه وعي، والتنازل على أنه تعافٍ، والتأقلم مع اللامعقول على أنه نضج.

كُتب “الخداع النفسي” لا ليقترح طريقًا آخر، بل لينزع القناع عن الطريق الوحيد الذي قُدِّم لك بوصفه خلاصًا، بينما هو إعادة إنتاج دقيقة للهيمنة، بلغة تبدو إنسانية لكنها تحمل في جوهرها رغبة عميقة في السيطرة، وتطويع الإنسان داخل قالب يمكن التنبؤ به، ومراقبته، والتحكم به باسم العلم والمساعدة والنية الطيبة.

هذا العمل لا يطلب منك أن تفهم، بل أن ترتاب. لا يُرشدك إلى الذات، بل يكشف لك كيف صيغت هذه الذات خارجك، ثم أُعيد تسويقها إليك على أنها أنت. لا يُقدّم لك تفسيرًا، بل يضعك أمام سؤال لا يمكن الهروب منه:

كيف تمّت إعادة تشكيلك، ولماذا صدّقت أن ما قُدِّم لك كان رحمة؟