
لماذا هذا الكتاب؟
لأن الإنسان لم يُخلق ليكون تابعًا لأفكارٍ مُعلّبة، ولا ليقف على هامش الفلسفة يطلب الإذن ليُفكّر.
ولأنك، كما كثيرون، طُردت من الميدان الذي كُنت أول من مشى فيه، تحت ذريعة أنك لا تملك المصطلحات، ولا تعرف الأُطر، ولا تتقن المنهج؛ وكأن المعرفة لم تكن يومًا نداءً داخليًّا، بل سلعة لها كهنوتها وطقوسها وطبقتها العليا.
هذا الكتاب ليس شرحًا للفلسفة، ولا ترجمةً لها، ولا تيسيرًا لها للعامّة، بل هو عملية تفكيك متقنة لما حال بينك وبين الحق، بلغة لا تستعير هيبة من أحد، ولا تقف على أعتاب قداسة فكر مسبق، بل تنطلق من حيث يجب أن يبدأ كل شيء: من الخذلان الأول الذي تعرّض له الإنسان حين أُقصي عن المعنى بذريعة أنه لا يملك أدواته.
لقد خُطفت الفلسفة منك لا لأنها عميقة، بل لأنهم جعلوها كذلك عمدًا؛ عكّروها بالمصطلحات، وغلّفوها بالاستشهادات، وحرّسوها بنظام أكاديمي لا ينتج أفكارًا، بل يصنّع مفكرين من تكرارٍ محفوظ، وظلال مفاهيم، وطقوس خطابية لا تولد منها فكرة واحدة حيّة. كل ذلك لا لأنهم يخافون عليك من الضياع، بل لأنهم يخافون أن تُفكّر وحدك. الخوف الحقيقي لم يكن من الجهل، بل من أن تعلن رفضك لما يُدعى معرفة.
ولأنهم جبناء، لا يبدأ أحدهم جملة دون شاهد. لا أحد يجرؤ على قول “استنتجت” أو “أقول”، بل يضع بينه وبين القارئ عكازًا: “كما قال أفلاطون”، “كما نبّه كانط”، “كما أشار نيتشه”. لا لأن أفلاطون يملك رؤية أسمى، بل لأن هذا المتحدّث أجبن من أن يبدأ بفكرته، وأضعف من أن يُقال إنه وحده هنا.
ولأنهم إما خائفون من أن تتدخل، أو جاهلون لا يملكون شيئًا أصيلًا يقولونه، يلجؤون إلى قوالب مغلقة، ومصطلحات مبهمة، وخطابات مفخّخة لا تقبل السؤال. ولذلك لا يقول أحدهم: “معنى هذا المصطلح هو…”، بل يكتفي بترديد المصطلح وحده، لأنه يعلم أن المعنى إذا قيل بوضوح، صار الإنسان خصمًا له، لا تابعًا خلفه.
إنه شكل من الخيانة الثقافية المغلّفة بهالة المعرفة، حيث لا يُراد لك أن تفهم، بل أن تُعجب، أن تُصفّق، أن تصمت.
هل هناك خيانة أكبر من أن يُمنع الإنسان من التفكير باسم الفكر؟
هل هناك خدعة أعمق من أن يُقدَّم لك القيد بوصفه علمًا، والغموض بوصفه عمقًا، والصمت بوصفه حكمة؟
في هذا الكتاب، لا تسلسل هرمي للفهم، ولا اشتراط لمهارة، ولا تقديس لمدرسة، لأننا لا نواجه الأفكار من فوق أو من تحت، بل نقف أمامها كما يقف الإنسان أمام جلّاده، دون أقنعة ولا تبرير. لا نحاورها، بل نحاكمها، لأن ما فعلته بالإنسان لا يُداوى بالاحترام، بل يُكشف بالخيانة.
لقد تحوّل الإنسان اليوم إلى كرة تركلها الأفكار بأقنعتها القبيحة حين تصرخ، وبأقنعتها الناعمة حين تهمس؛ لا أحد ينظر إليه كحياة، بل كحالة، كعينة، كأداة اختبار…
هذه ليست فلسفة، بل خيانة وجودية كاملة، لن يُسامح عليها التاريخ، ولن يغفرها الوعي الإنساني مهما طال صمته.
ولم يكن هدفها أبدًا أن تنقذ الإنسان، بل أن تزيّنه بالكلام وهو يُسحق. أن تحوّله إلى “موضوع فكري” يُدار ويمتثل ويُؤطّر، ثم يُسلّم لخطاب النخبة كي يُفسَّر، لا كي يُسمع.
اللغة الأخلاقية – الفلسفة المحرّمة
ليس ترفًا فكريًا، ولا مساهمة في نقاش فلسفي، بل عودة صاعقة إلى الجذر الذي قُطع، وإعادة ضبط لمعنى أن يكون الإنسان مركزًا، لا تابعًا. لا ندّعي الحياد، ولا نطلب إذنًا من أحد…
وفي هذا الكتاب، لا نُساوي بين المدارس، بل نُسقط أقنعتها:
- الميتافيزيقا، التي تغنّت بالوجود، كانت دومًا مهربًا من معناه.
 - الوجودية، التي ادّعت التمرّد، غرقت في العدم وانسحبت من الإنسان.
 - الكانطية، التي بشّرت بالأخلاق، سحقتها باسم العقل.
 - النفعية، التي تحدّثت عن المنفعة، امتصّت الكرامة وقدّمت الإنسان بوصفه أداة.
 - التحليل النفسي، الذي وعد بالفهم، لم يَرَ في الإنسان سوى مريض لم يُخلق للشفاء.
 - وما بعد الحداثة، التي كرهت المعنى، تواطأت مع العبث وجعلت الصمت إنجازًا.
 
لم يأتِ لهدم ما هو مهترئ فقط، بل لطرح أسئلة سُكِت عنها قرونًا، مع أنها كانت من أبجديات الفلسفة نفسها…
هذا النص لم يُغلق فصلاً فاسدًا وحسب، بل افتتح زمنًا جديدًا بالكامل…
لم نُعلن هنا مذهبًا ولا أيديولوجيا، بل أسسنا مدرسة إنسانية كاملة…
إن هذا المشروع هو بداية استعادة ما سُلِب منك كإنسان، وما كُسِر فيك كمخلوق أعلى لا يُدجَّن، كما تُدجَّن المخلوقات الأخرى.